مقالات

المقاييس القاتلة: حين ينهار الحلم على باب الجامعة.. !

محمد سعد عبد اللطيف كاتب وباحث في الجيوسياسية

في وطنٍ يتنازع فيه الحلم مع الألم، وتتقاطع فيه الآمال مع فواتير الحياة، تُعلَن نتائج الثانوية العامة كأنها لحظة حساب أخير. زغاريدٌ تُطلق من شرفات البيوت، وقلوبٌ تُكتم أنينها خلف الأبواب. هكذا نحن، نحتفل ونبكي، نرقص ونرتجف، على إيقاع رقم قد يرفع صاحبه إلى عنان السماء، أو يُسقطه في قاع الخيبة.

يعيش الآلاف من طلبة مصر لحظة فاصلة بعد إعلان النتيجة. بعضهم نجا بمجموعٍ عالٍ، وبعضهم لم يصل إلى “الكلية الحلم”، وآخرون تقف ظروفهم المادية عائقًا أمام الدخول إلى الجامعات الخاصة، فينقلب الفرح إلى وجع، والطموح إلى مأزق وجودي.

لكن السؤال الأهم: هل المجموع العالي دليل على الذكاء الحقيقي؟ هل أرقام التنسيق تقرر مصير الإنسان؟

الإجابة فادحة في بساطتها: لا.

لكن مجتمعنا لا يعترف بهذه “اللا”، ويُصر على تحويلها إلى حكم بالإعدام المعنوي، يطارد الطالب وأسرته، ويحوّل النتيجة إلى معيار يُقصي أو يُبجل.

في مجتمعٍ اختُزل فيه المستقبل في خانة رقمية، يصبح النجاح في عين الناس مرهونًا بمقعد في كلية الطب أو الهندسة. لا أحد يلتفت إلى شغف الطالب، أو إمكانياته الفريدة، أو حتى جهده الطويل. المهم أن تدخل “كلية قمة”، ولو على جثة الحلم.

أما الجامعات الخاصة، فهي على الورق بدائل منفتحة، لكن في الواقع باتت أبراجًا عاجية لا يدخلها إلا من يملك الثمن. فهل تواكب هذه الجامعات المعايير العالمية فعلًا؟

قليل منها فعلًا يُراهن على الجودة والتطوير، بينما الكثير لا يزال حبيس الشكل دون الجوهر، والربح دون رسالة. في وطنٍ مثقل بالأعباء، بات التعليم الجيد امتيازًا طبقيًا لا حقًا عامًا، والفرص تصطف خلف أصحاب الحسابات البنكية، لا العقول المتقدة.

ما أخطره من مشهد حين نرى طالبًا موهوبًا يقف عند حافة الحلم، عاجزًا عن الالتحاق بالكلية التي يحب، فقط لأن أسرته لا تملك مالًا يكفي!

يتحول التعليم من حق إلى سلعة، ومن وسيلة لبناء الإنسان إلى صفقةٍ يربح فيها من يملك أكثر، لا من يستحق أكثر.

هذه المعايير القاسية تقتل أبناءنا بصمت. تقتلهم حين تضع “النجاح” في صورة جامدة، محدودة، صارمة. تقتلهم حين لا تسمح لهم بالوقوع، أو بإعادة المحاولة، أو حتى بالتأمل.

في مجتمعٍ لا يعترف بالفشل كجزء من التجربة، بل يراه عارًا، لا مكان فيه للمرونة ولا للرحلة الشخصية. فقط خريطة واحدة، طريق واحد، ومن يحِدّ عنه يُقصى، يُسحق، أو يُنسى.

النجاح الحقيقي لا يُقاس بدرجات، بل بمحاولات. لا يُقاس بكلية، بل بإرادة. لا يُقاس برأي الناس، بل بنظرة الشخص إلى نفسه بعد كل سقطةٍ ونهضة.

لقد حان الوقت لإعادة تعريف النجاح.

النجاح هو أن تنهض بعد كل خيبة، أن تواصل الحلم وسط الإحباط، أن تبني طريقك حين تُغلق الطرقات.

.. .أخيرًا.. .

لا تقتلوا أبناءكم بخناجر التوقعات. لا تحاصروهم بمعايير مثالية فاسدة. افتحوا أمامهم أبواب التجربة، اسمحوا لهم أن يتأخروا، أن يُخطئوا، أن يبحثوا عن أنفسهم في مسارات غير تقليدية.

في كل فشل نجاحٌ مختفٍ، وفي كل تأجيل حكمة. الأهم ليس ما خسرناه في هذا الموسم، بل كيف نجهز شِباكنا لصيد اليوم القادم، بأملٍ جديد، وعقلٍ مفتوح، وقلبٍ لا يزال يؤمن.. .!!

— محمد سعد عبد اللطيف

كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية.. ، ،

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts