مقالات

الغفران فضيلة وليس فريضة – الأسبوع

في زمنٍ يُغلف فيه الخذلان والانكسار بورق «الفضيلة»، ويُطلب من القلوب المنهكة أن تتزين بالتسامح رغم نزفها، يصبح من الضروري أن نعيد النظر في المفاهيم التي تُفرض على النفوس كأنها واجبات مقدسة.

الغفران قيمة إنسانية نبيلة، نعم، لكنه لم يكن يوماً فرضاً إيمانياً مطلقاً، ولا اختباراً وحيداً لنقاء القلوب، فكثيراً ما يُتهم من يرفض المسامحة بالقسوة أو ضعف الإيمان، وكأن الحفاظ على الكرامة الشخصية جريمة أخلاقية، والحقيقة أن الغفران، كما يطرحه القرآن الكريم، هو خيار لا أمر، وفضل لا واجب.

قال تعالى: “فمن عفا وأصلح فأجره على الله”، ليؤكد أن العفو ليس ملزماً، بل متروك لضمير الإنسان. وفي الآية التالية مباشرة، يُقر النص بحق الرد والكرامة، “ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل”، وهي شهادة قرآنية على أن الانتصار للنفس بعد الظلم لا يُعد عيباً ولا نقصاً في الإيمان، بل هو عدل مشروع لا يُلام عليه صاحبه. هذا التوازن بين التسامي على الجُرح والحق في رد الاعتبار، يسقط فكرة الغفران الإجباري.

ويؤكد أن كرامة الإنسان ليست من التضحيات المفروضة باسم الفضيلة. فالغفران الحقيقي لا يُنتزع بالقوة، بل يولد من حرية داخلية، ووعي ناضج بالكرامة وحدود الاحتمال، ومن غير المنطقي أن يُطلب من قلبٍ ينزف أن يغفر فوراً، أو أن يُحمل الصبر فوق طاقته باسم التسامح، إن تسامح، هو قرار داخلي لا يُملى من الخارج.

والجرح لا يُقاس بالكلمات، ولا تُحدد له جداول زمنية، فقد يغفر الإنسان عن طيب خاطر، وقد يحتاج إلى سنوات لينضج هذا القرار داخله، وقد لا يغفر أبداً، وهذا حقه الكامل.

ليس كل من امتنع عن المسامحة جامد القلب أو لوحاً من الثلج، ربما هو فقط مرهق، أو خائف من تكرار الخذلان، أو لا يرى في الطرف الآخر ما يستحق فرصة جديدة، فبعض الأخطاء تنسف الثقة من جذورها، وبعض الجراح لا تضمد بالمبادئ وحدها، وأن تختار ألا تغفر يعني أنك تدرك حجم الألم الذي سُكب بداخلك، وتعرف متى تضع حداً لما يؤذيك، فهناك أخطاء لا تُفهم كخيبة فقط، بل كصدمة لأنها جاءت ممن كان الأجدر به أن يحميك لا أن يكسرك.

أحياناً، لا يكون الألم في الفعل نفسه، بل في أن من ارتكبه كان الأقرب، والأكثر علماً بما يوجعك. تشعر أن الخيانة ما كان ينبغي أن تطالك، لأنك أعطيت بإخلاص، ووثقت بصدق، وبنيت علاقة على أساس ظننته لا يُهدم. وحين تنهار تلك الثقة، لا يبدو الغفران مستحيلاً فحسب، بل وكأنه خيانة جديدة ترتكب في حق نفسك. لأنك ببساطة لم تكن تستحق أن يُكافأ كل هذا النقاء بالخداع.

فليس من النبل أن نُربت على يد من طعننا، ولا من الحكمة أن نقابل الخذلان بالتسامح المجاني. ليس كل اعتذار دليل ندم، فكم من كلمات قيلت لتبرئة النفس، لا لمداواة القلب.

بعض الخيانات، وبعض الأكاذيب، وبعض الانكسارات، لا يصلحها الغفران، بل الحزم والانفصال. وبعض التجاوزات لا تُعالج بالتسامح، بل بالوضوح والقطع. غفران الخيانة أو الكذب المتكرر قد يكون تخلياً عن قيمة النفس، لا نبلاً منها.

الكرامة لا تُنافي التسامح، لكنها تحدد له حدوده الطبيعية، وقد جاء في الحديث القدسي عن الله عز وجل: “يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً ” فهل يُطلب ممن تعرض للظلم المستمر أن يغفر بلا توقف؟ وهل يُعد القلب قاسياً فقط لأنه لم يعد قادراً على الاحتمال؟

قد لا يكون العفو دائماً شفاءً، بل في أحيانٍ كثيرة إهانة إضافية للنفس. وإن الله الذي أوجب العدل على نفسه، لا يطلب منك أن تظلم نفسك باسم الصفح.

لذلك، حين يختار الإنسان ألا يسامح، فهو لا يختار القسوة، بل يختار الصدق مع ذاته. يقرر ألا يحمل في قلبه من لا يستحق البقاء.

فلا تطلبوا الغفران على غدرٍ أو خيانة، فما كان ينبغي في المقام الأول أن ترتكب في حق من منحكم ثقته بصدق، فالصفح الحقيقي لا يولد من ضعف، بل من قوة، والقوة أحياناً، أن تقول بكل هدوء: “كفى.

اقرأ أيضاً“أداب الإستئذان ونشر الفضيلة” ندوة تثقيفية للرواق الأزهري بالشرقية

«الأزهر للفتوى» يوضح كيف يربي الصوم هذه الفضيلة في الإنسان.. تعرَّف عليها

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts