«أنا واقف على نصبة شاى بشتغل زى كل يوم، ومرة واحدة لقيت نفسى بتقطع بالكتر كأنّى فرخة.. عشان مدفعتش 50 جنيه إتاوة!».. بهذه الكلمات، بدأ مكاريوس هانى، الشاب ذو الـ19 عامًا، روايته لما تعرّض له قبل أيام في أحد شوارع منطقة المهندسين بالجيزة، عندما هاجمه 6 شبان بينهم من اعتاد ابتزازه ماليًا بشكل يومى، لينتهى به الأمر بجروح قطعية بالغة في الرقبة والذراع، و44 غرزة، بعد اعتداء موثق أفضى إلى تحرّك أجهزة الأمن التي تمكنت من ضبط اثنين من الجناة، بينهم المتهم الرئيسى «إسلام»، وتكثف جهودها لضبط الباقين.
كان كل شىء يبدو عاديًا في تلك الليلة، الشوارع بدأت تخلو تدريجيًا من المارة، والليل يلف أركان حى المهندسين المعروف بحركته الهادئة قبل منتصف الليل، إلا من صوت الغلاية التي يغلي فيها الشاي على نصبة صغيرة يقف خلفها الشاب «مكاريوس» يطمح فقط في لقمة عيشه.
«بشتغل على عربية شاى من 3 سنين، واقف قدام جراج بيقولى عليه بتاعه، وكل يوم إسلام ده ييجى ياخد منى 50 جنيه إتاوة، بس يوم الخميس اللى فات مكنش معايا»، يقول «مكاريوس» لـ«المصرى اليوم»، محاولًا أن يحبس دمعة لم تسعفه حين تذكر ما تلا تلك الجملة البسيطة.
أكثر من ألف يوم مرّ خلالها «مكاريوس» على الرصيف ذاته، لا يطمح في الكثير، يشترى الشاى والسكر والنعناع ويبيعها لزبائنه، يحتفظ بابتسامته للمارة، ويعود بما تيسّر إلى أسرته التي تعانى ظروفًا صعبة، لكن تلك الابتسامة كانت على موعد مع انكسار غير مسبوق.
«كل يوم كان يقولى: العربية دى قدام الجراج بتاعى، ادينى فلوس، وأنا كنت بديّه، مرات كتير كنت بخاف، بس كنت ساكت، المرة الأخيرة دى بس مكنش معايا، قلت له مش قادر، ساعتها وشه اتغير».
تفاصيل اعتداء على شاب يعمل على نصبة شاي في المهندسين
يحكي «مكاريوس» أنه في مساء الخميس الماضى، تشاجر مع «إسلام»، الشاب الذي دأب على ابتزازه، قبل أن ينصرف الأخير متوعدًا: «هتشوف»، لم تمرّ دقائق طويلة، حتى عاد بصحبة 6 آخرين.
«واحد منهم شدنى من التيشيرت، والتانى ضربنى بكتر في إيدى، وإسلام نفسه نزل بكتر تانى على رقبتى»، يتابع بصوت خفيض، ويشير إلى ندبة طويلة تغطى جانبا من رقبته اليمنى.
لم يكن في الشارع سوى القليل من العابرين، إذ يروى المجنى عليه: «الساعة كانت حوالى 11 بليل، والدنيا هادية، والناس معدتش كتير، محدش لحقنى»، دقائق قليلة كانت كافية لأن يغرق الشاب في دمائه.
«هما كانوا بيقطعوا فيا بالكترات.. مش بيضربوا، كانوا بيقطعوا كأنهم بيقطعوا فرخة، حرفيًا.. وأنا مش قادر أعمل حاجة، كل اللى كنت بفكر فيه وقتها، هو أمى»، يقول «مكاريوس»، وقد علت وجهه رعشة واضحة وهو يسرد لحظة شعر فيها أن حياته ستنتهى.
شاب يتعرض للذبح في الشارع من بلطجية بسبب الإتاوة
بذراع غارقة بالدماء، ورقبة تنزف، تمكّن الشاب من الزحف نحو إحدى السيارات المارة، يستنجد: «كان في واحد واقف شافنى، أخدنى بسرعة ورحنا على مستشفى حكومى».
لكن المفاجأة الكبرى أن الطاقم الطبى بالمستشفى الحكومى رفض التعامل مع حالته، كما يقول، «خافوا، قالوا الحالة خطيرة ولازم تتنقل مستشفى تانى، عشان لو حصل لى حاجة مايتحاسبوش».
نُقل «مكاريوس» بعدها إلى مستشفى خاص، وهناك بقى 3 ساعات كاملة في غرفة الطوارئ، بين الحياة والموت: «كنت بنزف ومش حاسس بحاجة، لكن كنت صاحى، مش فاكر كام غرزة بالظبط.. بس الدكتور قالى 44 غرزة»، يضيف وهو يطالع ضمادة ملفوفة بعناية على ذراعه.
توقّف عن العمل منذ تلك الليلة، يعجز عن رفع ذراعه، ويتحاشى النظر إلى رقبته في المرآة: «بأكل بالعافية، وبنام بالعافية.. وبقول لنفسى.. هو أنا اتعورت بس؟ ولا اتحطت على وشّى علامة طول العمر؟».

إصابة شاب بجروح قطعية في الرقبة والذراع على يد 6 بلطجية
وسط الغرفة الصغيرة في منزل عائلته، تجلس الأم على طرف السرير تبكى، بينما يحاول والده تهدئتها، «مكاريوس» يعيل أفراد أسرته كما يقول: «أنا بشتغل من وأنا عندى 16 سنة، مينفعش أقعد، بس دلوقتى مش قادر حتى أفتح الغلاية بإيدى».
بكلمات بسيطة تحكى والدته عن لحظة علمها بما جرى لابنها: «اتصلوا بى قالولى تعالى ابنك في المستشفى.. كنت فاكرة حادثة.. ماكنتش متخيلة إن حد يبقى عايز يموّت بنى آدم عشان 50 جنيه».
في أعقاب الحادث، تحركت أجهزة الأمن بالجيزة، وبعد تفريغ كاميرات المراقبة المحيطة بالمكان، تم التوصل إلى هوية المتهمين، وأُلقى القبض على اثنين منهم، من بينهم المتهم الرئيسى «إسلام»، الذي تعرّف عليه «مكاريوس» خلال عرضه على النيابة العامة.
«أنا اتعرفت عليهم، مش هنسى وشوشهم.. لما شفتهم وقفت جسمى بيرتعش.. بس الحمد لله إنهم اتمسكوا.. ولسه في 4 تانيين هربانين».
تؤكد مصادر أمنية أن الجهود مازالت مستمرة لضبط باقى المتورطين في الواقعة، الذين تم تحديد هوياتهم، وتعمل فرق البحث الجنائى على تتبع أماكن ترددهم، وتكثيف التحريات لضبطهم خلال الأيام المقبلة.
لا يطلب «مكاريوس» تعويضًا، ولا ينتظر الكثير، يقول: «أنا مش طالب غير حقى. حقى إن الناس دى ماتكررش ده مع حد تانى. وحقى إن أرجع أشتغل، بس من غير رعب».
ينظر إلى الضمادة مرة أخرى، ثم إلى والدته التي لا تزال تبكى: «أمى قالتلى أول ما خرجت من العمليات: ربنا نجّاك يا ابنى.. وأنا كل يوم بصحى أقول: يمكن لسه ربنا عايزنى أعيش، عشان أحكى اللى حصل».