مقالات

مستقبل سوريا بين التوازنات الدولية والانعكاسات الجيو-اقتصادية

منذ بداية الأزمة السورية، لم تكن سوريا مجرد ساحة نزاع داخلي بقدر ما كانت مسرحًا مفتوحًا للتجاذبات الإقليمية والدولية. فالصراع على أرضها تجاوز حدود الجغرافيا ليطال موازين القوى العالمية، وتقاطعات المصالح الاقتصادية، وتوازنات الطاقة، والممرات الاستراتيجية.

واليوم، ومع تراجع نفوذ بعض القوى الإقليمية، مثل إيران وحزب الله، وتزايد الضغوط لإزاحة النظام السوري من المشهد، تتجه الأنظار إلى تداعيات هذا التحول على الدور الروسي في سوريا. إذ أن موسكو التي رسّخت وجودها العسكري في الساحل السوري، ستجد نفسها أمام معادلة جديدة تقلّص من أوراقها في المنطقة، خاصة إذا تم إخراج حلفائها الأساسيين من المعادلة.

لكن البعد الأهم يتجاوز البعد العسكري إلى الجيو- اقتصادي. فروسيا التي تعاني أصلاً من العقوبات الغربية على خلفية الحرب في أوكرانيا، قد تواجه مزيدًا من الخنق الاقتصادي مع إعادة تشكيل التوازنات في سوريا. وهنا يصبح الملف السوري أداة ضغط إضافية على موسكو، إذ يلوّح الغرب باستخدامه كورقة مساومة ضمن صراعه الأشمل مع روسيا، سواء عبر التضييق على مشاريع إعادة الإعمار أو عبر التحكم في مسارات الطاقة وخطوط الإمداد.

وفي الوقت ذاته، يبرز المشهد الأوروبي كفاعل رئيسي، فالقارة العجوز التي ترزح تحت أزمة طاقة خانقة، ترى في مستقبل سوريا فرصة وتهديدًا في آن واحد.فمن جهة، قد يشكل الاستقرار السوري ممرًا بديلًا للطاقة يخفف من الارتهان للغاز الروسي. ومن جهة أخرى، فإن أي فوضى أو انهيار متجدد قد يطلق موجات هجرة جديدة تُحدث زلزالًا سياسيًا واجتماعيًا في الداخل الأوروبي، يمكن استخدامه كورقة ضغط متبادلة بين موسكو وبروكسل.

ويأتي هذا فيما عُقد اليوم اجتماع مهم بين الرئيسين الصيني والروسي، ليعكس عمق التنسيق بين بكين وموسكو في مواجهة الضغوط الغربية. الصين التي تتقدم اقتصاديًا وتبحث عن طرق لتأمين إمدادات الطاقة والتوسع في مبادرة “الحزام والطريق”، تنظر إلى سوريا باعتبارها نقطة ارتكاز استراتيجية على المتوسط. وبالتالي فإن أي تقليص للدور الروسي هناك قد يدفع بكين إلى إعادة حساباتها، أو حتى محاولة ملء الفراغ بوسائل غير مباشرة، حفاظًا على مصالحها بعيدة المدى.

إزاء هذه التوازنات، تبدو سوريا نموذجًا مكثفًا للصراع الجيو- اقتصادي العالمي: بين روسيا التي تحاول الحفاظ على موطئ قدمها رغم العقوبات، وأوروبا التي تبحث عن بدائل للطاقة وتخشى من انفجار موجات الهجرة، والصين التي ترى في المشرق عقدة رئيسية لمشروعها الكوني، والولايات المتحدة التي تراقب كل هذه التحركات باعتبارها جزءًا من صراع أوسع على قيادة النظام العالمي.

إن مستقبل سوريا، إذن، لن يتحدد فقط بميزان القوى على الأرض، بل بقدرة الأطراف الدولية على إدارة هذا الاشتباك المعقد بين الجغرافيا والسياسة والاقتصاد.وما يجري اليوم قد لا يكون سوى بداية لمرحلة جديدة تتجاوز حدود دمشق وحلب، لتطال بنية النظام العالمي بأسره.

اقرأ أيضاًبعد احتلال «جبل الشيخ».. خالد عكاشة: إسرائيل ستلعب دورًا في ترتيب مستقبل سورياالأمم المتحدة: مستقبل سوريا يقرره أبناؤها

دبلوماسية أمريكية تزور بلجيكا للمشاركة في مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة»

Leave A Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Related Posts