«أنغام» تفتح بوابات الجمال في مهرجان العلمين

«أنغام» تفتح بوابات الجمال في مهرجان العلمين

في زمن تتلاحق فيه الصور، وتتعدد الأصوات، وتتزاحم الأغاني، يظل الفن الحقيقي قادراً على اعتلاء عرش الوجدان بمنتهى الانسيابية، يبقى للصدق مكانه المحجوز باسمه دائماً، يستمر الصوت الصافي للأبد متربعاً على عرش الأصالة والعمق والتذكير بالجذور، بعيداً عن أي بهرجة أو «هندسة صوت خادعة»، أو حتى زينات مفرغة، بل في لحظات الصمت يمكن للقلوب أن تنصت إليه بكل سهولة رغم صراخ الضجيج، وفي مهرجان العلمين، لا نحتفل ونحتفي بالجمال وحده، وإنما يعيد لنا هذا الجمال طرح أسئلة «الهوية»، و«المكان»، و«الزمن»، وفي بضعة أسطر، لا يمكننا قراءة افتتاحية المهرجان، كأي افتتاحية صحيفة، تتراص فيها الحروف وصفاً بليغاً لـ«احتفالية صيف ساحلي»، وإنما نحن هنا نتحدث عن «براند ثقافي فني» ولد عملاقاً ليرسم خريطة جديدة لمصر، لا تحمل تضاريس جغرافية فحسب، وإنما آثاراً فنية حية شاهدة على عصر مزدهر.

ومع ازدهار عصر جديد، تتجدد الذاكرة، وينتعش الماضي، ينفض عنه غبار الألم، فتتحول مدينة العلمين من مقبرة صامتة لجنود الغرباء، إلى مسرح مفتوح يعج بالفن والحياة، وتنتقل المدينة من سردية الحرب إلى سردية السلام والجمال، ومن دويّ «صوت المدافع» إلى شدو «صوت أنغام»، تلك الفنانة التي استهلت مهرجان العلمين، ليس بكونها افتتاحية للجمال فحسب، فـ«أنغام» لا تغني فقط، وإنما تستطيع بكل سهولة واقتدار، أن تعيد ترتيب النبض في وجدان الجماهير.

وعلى خشبة مسرح «يو آرينا» بالعلمين، يوم الجمعة الماضي، أطلت في ثوبها الفضي البراق، كأنها «الساحرة الطيبة» التي تحمل عصا لؤلؤية في نهايتها «نجمة الأماني»، بلمسة واحدة منها في أقل من ثانية، سحرت مَن جلس أمامها، ومَن وقف، وحتى من تابعها عبر شاشات، فاجأت الجميع بصوتها ينساب بينهم، فيرسم هالات تحيط القلوب وتحملها معها إلى آفاق السحر والخيال.

عالم خاص جداً تستطيع وحدها أنغام أن تصنعه بمهارة وتلقائية وحرفنة، بكل لهفة وشجن، بكل قوة المحب وضعف الأنثى في آن واحد، أخذت الجماهير معها إلى عالم الأحلام والرومانسية على ضفاف الذكريات، عبر شواطئ الجمال الأخاذ الذي لا يفنى بمرور الزمن.

جماهير كثيفة، من كل حدب وصوب، في شتى بقاع المعمورة، جاءوا إلى العلمين، لأسباب مختلفة، اجتمعت كلها على الاستمتاع بالجمال، بين سائحين ساعين لاختطاف نسمات صيف ساحر على شواطئ خلابة، وبين «سمّيعة» من المحيط للخليج يتسارعون لاقتناص لحظة طرب أصيل، تتمايل معها القلوب، وبين عائلات اصطحبت أطفالها لممارسة أنشطة رياضات مائية وبر مائية، وبين شباب راغبين في قضاء عطلة صيف بطعم المرح، بعد عناء موسم دراسي ثقيل، فئات عمرية وألسنة ولهجات مختلفة انطلقت إلى العلمين بهدف واحد فقط: قضاء وقت رائع.

«كأننا لا نحب ولا نصادق ولا نلهو.. .إلا فراراً من الزمن»، هكذا قال الأديب العالمي نجيب محفوظ، ولكننا هنا على شواطئ الذكريات في العلمين لا نهرب من الزمن، وإنما نهرب إليه، نستجديه أن يطول فنحقق المزيد من المتعة والراحة والاستجمام، فصوت “أنغام” يسرق من الوقت وقتاً خارج حسابات الزمن الأرضي، في افتتاحية اجتمع فيها صناع الموسيقى والصورة لصياغة هوية فنية تعيد تشكيل المشهد الثقافي المصري، خارج مركزية العاصمة.

تعددت الألوان ولمعت الأضواء، وتماهت اللوحات الراقصة والموسيقية مع تمايل الجمهور، من استعراضات بحرية وإسقاطات ضوئية على صفحة المياه الرائقة، ولم يقتصر الجمال على هذه المناظر البديعة وحدها، فلم يكن الحدث الحقيقي “بصرياً” فقط بل “سمعياً”.. وجدانياً، وكأنما هذه الـ”أنغام” أخذت من الموج طراوته، ومن الرمل دفئه، ومن السماء بريقها، لم يكن حفلها مجرد فقرة فنية طربية، وإنما عودة صوتية للذات المصرية، فـ”أنغام” ليست مجرد مطربة عابرة في تاريخ الغناء العربي، بل هي امتداد “خط حساس من الفن”، يضع المشاعر على خشبة المسرح، لا كأداء، وإنما “اعتراف وجودي بالحياة”، فيفتتح مهرجان العلمين ببراعة استهلال كالتي يعزفها الشعراء في قصائد الغزل. وقفت أنغام على خشبة المسرح كـ”ختم ثقة” لا يقبل الشك، تشدو بمزيج متناغم من الشجن والاحتراف، من الرقة والسيادة، من النعومة والحسم، ليتم تثبيت الكادر على نظرة الدهشة في عيون الجميع.

أغاني «أنغام» ليست مجرد كلمات مميزة وألحان ناعمة وأداء صادق فحسب، وإنما هي رصيد في القلوب، يجدد الإيداع في خزينة الذكريات، يرمم جدران الوجع، ويطيب جراحاً خفية داخل الروح، ومن مفارقات القدر، أن أغنيتها التي طرحتها منذ 2015، بعنوان “بين البينين”، وتتجدد في كل حفل بإحساس أنضج وأرقى، لا عجب أننا نعيش معناها ها هنا في العلمين، تلك المدينة التي تقف بين البينين، بين الصحراء والماء، بين الماضي والمستقبل، بين الحرب والحياة، في لحظة فلسفية نعيش فيها الحاضر بكل طموح المستقبل، دون أن ننسى ذلك الماضي المعلم واهب الحكمة، ليستعيد صوت أنغام رحيق الماضي، ويعيد تأويل الحاضر، بينما نغني لهذا المستقبل الواعد المبشر بالحياة، في لحظة شديدة الخصوصية.

وما بعد الافتتاح وتوزيع الزمن على آلات الموسيقى.. .ثارت تساؤلات أخرى حول نجاح «العلمين»، في أن يتحول لمنصة ثقافية دائمة، حول هذا المهرجان السنوي الوليد الذي خلق هوية مستقلة له، لا تشبه غيره، تجربة فنية ذاتية يتفاعل معها الملايين داخل الحدث وخارجه، تراهن على إشباع حاجات الجمهور المتعطش، للمتعة الحقيقية ذات القيمة والمعنى، بعيداً عن الضجيج الفارغ، للفن الأصيل الذي يبوح ولا يتباهى، يجدد ولا يكرر، يصغى ولا يصرخ، في مكان أشبه بـ«نموذج للحياة» يسعى لتأسيس خطاب جمالي يمزج تعريف الطبيعة بإبهار الحداثة، في مهرجان العلمين الذي يعبر الزمن ويتجاوز لحظات الاستهلاك المنسية، مهرجان عابر لفكرة الترفيه، ليتحول إلى رؤية مستقبلية لمصر الوطن الذي يتنفس فناً وموسيقى. وسط الرمال الناعمة مع خلفية البحر الشاهد الأبدي على عُمر جديد، بدأ عامه الثالث على صوت داخلي فينا يرقص على شدو «أنغام»، وهي تستهل الافتتاحية بـ«عمري معاك»، فيمر شريط العمر، ونشعر أننا مازلنا قادرين على أن نحب، ونسأل أنفسنا: هل نغني لأننا سعداء، أم نغني لنصبح سعداء؟؟

اقرأ أيضاًأنغام: لست مصابة بالسرطان وأجري فحوصات على البنكرياس

على أنغام «مكسرات».. فيفي عبده ترقص في الساحل الشمالي «فيديو»

قبل انطلاقه الليلة.. شروط حضور حفل أنغام بـ مهرجان العلمين 2025

Exit mobile version