«شفتها بتقع من فوق… حسيت إنها بنتي، فتحت دراعي ونسيت نفسي».. بهذه الكلمات المقتضبة، روى شهاب عبدالعزيز اللحظة التي غيّرت حياته وحياة الطفلة ريتاج هاني، ذات الـ 11 عامًا، إذ بين دخان أسود ولهيب يلتهم الجدران، وقفت الصغيرة متشبثة بحبال المنشر في شرفة بالدور الـ 11 بشقتها بأحد العقارات في المنيب بالجيزة، والنار تحاصر غرفتها، قبل أن تفلت قبضتها وتبدأ رحلة سقوط انتهت بين ذراعي رجل لم يعرفها من قبل، لكنه قرر في لحظة أن حياته تستحق أن تُخاطر من أجلها.
الشرارة الأولى لم تكن سوى خلل كهربائي في مفتاح التكييف، كما تقول جدة الطفلة «ريتاج» لأبيها: «النار جت فجأة بعد ماس كهربائي في زرار التكييف… أوضتها ولعت في لحظة»، إذ النيران التهمت الستائر أولًا، ثم الأثاث، وامتدت إلى السقف والجدران، كل شيء صار يشتعل في انسجام مرعب، والدخان الأسود يملأ الرئة قبل العين، حسب الجدة.
كانت الطفلة وحدها في الغرفة، حاولت أن تهرب من الباب، لكن الحرارة كانت خانقة واللهب أغلق الطريق، لم تجد أمامها سوى الشرفة الصغيرة، التي تطل على الشارع من ارتفاع شاهق، هناك، وسط أصوات الانفجار الخفيف لأخشاب تتكسر، وقفت «ريتاج» على حافة الخوف والحياة.
«كانت ماسكة في حبال المنشر بإيديها الصغيرة وهي بتصرخ»، تحكي الجدة، وعيناها تستعيد المشهد وكأنه لا ينتهي، إذ الحرارة كانت تحرق جلد يدي الطفلة، وأصابعها تتصلب ثم ترتخي، بينما ألسنة اللهب تقترب من ملابسها.
في الشارع، بدأ المارة يلتفتون إلى الأعلى، رؤوس مرفوعة، وعيون متسعة، وصوت امرأة يصرخ: «البنت فوق!»، لا أحد يجرؤ على التحرك، المسافة بين الطفلة والأرض كانت كفيلة بجعل أي محاولة إنقاذ عبثية.. «الناس كلها وقفت في ذهول، مش قادرين يعملوا حاجة»، يروي أحد الشهود.
«حضنها بكل قوته… نزلت على وشه وجانبه الأيسر»
على الرصيف المقابل، كان شهاب عبدالعزيز، فرد أمن في إحدى الشركات، عائدًا من عمله متجهًا إلى بيته في المنيب، كان التعب باديًا على وجهه، وذراعه تتأرجح بحقيبة صغيرة، حين لمح المشهد، توقفت خطواته فجأة، عيناه التصقتا بجسد الطفلة المتأرجح على الحبال، تقول زوجته، «أم شهد»: «شاف البنت بتقع… وفضل مركز معاها، كأنها بنته».
لم تكن هناك وقت لحسابات أو تردد، الحرارة جعلت الحديد جمرًا، و«ريتاج» لم تعد قادرة على التشبث، أفلتت قبضتها، وسقطت من الدور الـ 11، جسدها ارتطم بأحبال الغسيل في الطوابق السفلية، ما خفف من سرعتها قليلًا، لكنه لم يمنع الخطر.
«النار كانت بتاكل الشقة»
كان «شهاب» قد ثبت قدميه على الأرض، وفتح ذراعيه على اتساعهما، كمن يستعد لالتقاط كنز لا يمكن أن يفرط فيه.. «حضنها بكل قوته… نزلت على وشه وجانبه الأيسر، ووقعوا مع بعض على الأرض»، تكمل زوجته، بينما يختنق صوتها.
السقوط لم يمر بسلام، فقد «شهاب» وعيه فورًا، وأصيب بكدمات وكسور في الفك، وعينه اليسرى، ورأسه، وساقيه الاثنتين، لكن بين الأطباء ورجال الإسعاف، كان واضحًا أن جسده امتص الجزء الأكبر من الصدمة، وأنه لولا تلك اللحظة، ربما كان الخبر سيحمل مأساة أكبر بكثير.
في الطابق الـ 11، كان الأب «هاني» يخرج من غرفة النوم الأخرى، حيث كان ينام بجوار ابنه الأصغر «حمزة» (8 سنوات)، أما الابن الثالث «عبدالرحمن» (13 عامًا)، فكان قد نزل إلى الشارع قبل اندلاع الحريق.
«افتكرت بنتي ماتت… النار كانت بتاكل الشقة»، يقول «هاني»، مستعيدًا لحظة العجز، عندما أدرك أنه لا يستطيع دخول غرفة ابنته من شدة اللهب، كان صوته يعلو، ويداه تضربان وجهه، حتى جاءه الجيران، وأخبروه أن ابنته أُنقذت.
«ريتاج حسيناها زي بنتنا بالضبط»
«مكنتش مصدق إلا لما شوفتها في الشارع… وشهاب شايلها وهو واقع»، يضيف الأب، وعيناه تمتلئان بالدموع، بين صدمة الحريق وفزع فقدان ابنته، لم يجد إلا الامتنان لرجل لم يكن يعرفه قبل دقائق.. «بشكر شهاب وممتن له طول عمري لحد ما أموت… مكنتش أتحمل أفقدها خالص».
أصوات سيارات الإسعاف بدأت تملأ المكان، رجال الإسعاف شقوا طريقهم بين الحشود، رفعوا الطفلة أولًا على نقالة، ثم «شهاب»، الذي كان لا يزال فاقدًا للوعي. «كانوا بيجروا بين النار والزحام»، يروي شاهد آخر.
في المستشفى، بدأت رحلة العلاج، الطفلة دخلت مباشرة إلى العمليات لإصلاح الحروق في يديها، بينما «شهاب» خضع لفحوص عاجلة كشفت عن كسور وإصابات خطيرة في الوجه والعينين والساقين.
«هو شبه فقد النطق… لكن قال لي وهو بيشاور: لو عاد بي الزمن، كنت هعمل نفس الموقف بالضبط»، تقول «أم شهد»، وتضيف: «إحنا على قد حالنا… ونفسي العلاج يكون على نفقة الدولة.. ريتاج حسيناها زي بنتنا بالضبط».
«أم شهد» تحاول أن تبقي بيتها متماسكًا، لديها 3 أبناء، أكبرهم «شهد»، طالبة في الصف الثالث الثانوي، كلهم يتنقلون بين المستشفى والبيت، وقلوبهم معلقة بأبيهم الذي غاب عنهم فجأة إلى سرير المستشفى.
في القسم الآخر من المستشفى، تجلس جدة «ريتاج» إلى جوار حفيدتها، تمسك يدها المغطاة بالشاش الأبيض. تقول وهي تراقب وجهها الشاحب: «دي كانت نايمة في أمان الله… وفجأة كل حاجة ولعت»، تحمد الله أن حياة حفيدتها لم تنتهِ في تلك الليلة، رغم الصور التي تلاحقها من المشهد.
«بقيت أخويا»
الحريق في الشقة تم إخماده بعد دقائق من إنقاذ الطفلة، لكن آثاره ظلت باقية على الجدران والأثاث المحترق، والجيران ما زالوا يتحدثون عن شجاعة «شهاب»، وعن لحظة السقوط التي صارت حديث الحي بأكمله.
تقول إحدى الجارات: «المنظر مش هينساه حد… إزاي واحد يعرّض نفسه للخطر بالشكل ده عشان ينقذ طفلة ما يعرفهاش»، كلماتها تجد صدى في وجوه الواقفين، الذين يحركون رؤوسهم تأييدًا، وبعضهم يرفع هاتفه ليعرض الفيديو الذي التقطه للحظة الإنقاذ.
بالنسبة للأب «هاني»، فإن القصة لا تتوقف عند الشكر، يخطط لزيارة «شهاب» في المستشفى بمجرد أن تسمح حالته، ليكرر أمامه ما قاله خلال حديثه لـ«المصري اليوم»: «أنت بقيت أخويا… وريجاتا هتكبر وهي عارفة إن حياتها من حياتك».