في ذكراها الـ 73.. كيف صاغت ثورة يوليو مسار القضية الفلسطينية؟

في ذكراها الـ 73.. كيف صاغت ثورة يوليو مسار القضية الفلسطينية؟

تحل بعد غد الذكرى الـ 73 لثورة 23 يوليو 1952 وغزة تتعرض لأبشع عمليات تجويع وتهجير وإبادة جماعية والضفة الغربية تتعرض لأبشع عملية استيطان عنصري منذ قيام الكيان الإسرائيلي. ومنذ زلزال طوفان الأقصى لم يستدع قائد عربي عبر كل منصات التواصل الاجتماعي والصحف وقنوات التليفزيون، كما استدعي زعيم هذه الثورة جمال عبد الناصر. حظيت مقولاته « عن القضية والمقاومة الفلسطينية بعشرات الملايين من المتابعات. استدعت الشعوب مواقفه التي لم تكن تتوانى، أو تتردد لحظة عن المساندة الفورية للفلسطينيين، ووضع كل إمكانيات مصر تحت تصرفهم.

قارن الناس بين النظام الإقليمي العربي الذي كان يقوده بضغط الشعوب العربية التي كانت سلاحه الرئيس العابر للحدود، فينتزع ما يستطيع من دعم للفلسطينيين من الحكومات العربية، وبين مواقف «اللا نظام» العربي الراهن، وعجزه التام حتى عن إدخال رغيف خبز إلى مليوني فلسطيني فرض عليهم الحصار الأمريكي – الإسرائيلي القاتل من البر والبحر والجو.

لكن العلاقة بين ثورة يوليو وقائدها والقضية والمقاومة الفلسطينية أكبر بكثير حتى مما تقدم لدرجة أنه يمكن القول دون مجازفة كبيرة: إن قيام ثورة 23 يوليو بقيادة ضابط حارب هو ورفاقه من الضباط الأحرار في حرب 1948 كان بداية تغيير تاريخي في مسار القضية الفلسطينية مازال يصبغها، ويحكمها حتى اليوم.

لم تبدأ مقاومة الشعب الفلسطيني العظيم لمشروع القدوم والاستيطان اليهودي لبلادهم مع يوليو وجمال عبد الناصر، لكنها بدأت منذ مطلع القرن العشرين مع تزايد الهجرات اليهودية، وبدء الاستيلاء على أراضي وبيوت العرب الفلسطينيين «بتساهل من الخلافة العثمانية، ثم بتواطؤ كامل من البريطانيين بعد الانتداب على فلسطين».

كما لم يبدأ الوعي العربي بخطورة ما يحاك لفلسطين بثورة يوليو، ولكنه بدأ في بلاد مثل مصر وسوريا ولبنان والعراق وشرق نهر الأردن منذ عشرينيات القرن الماضي.

وحتى جهود المساعدات العربية المادية للفلسطينيين لم تنتظر تغير النظام الملكي المحافظ، وقيام النظام الثوري في 1952 بل بدأت قبلها، وإن كانت مساعدات محدودة ومبعثرة.

لكن ما فعلته ثورة يوليو وما فعله عبد الناصر للقضية الفلسطينية كان في جوهره يتمثل في 3 تطورات تاريخية:

التطور التاريخي الأول هو تحويل فلسطين إلى قضية العرب المركزية، ومحور وقلب نظرية الأمن القومي العربي. في هذا الإنجاز تم تحويل كل هذه التراكمات الكمية، والمؤشرات المحدودة والبدائية للوعي العربي بخطورة المشروع الإسرائيلي إلى تغيير كيفي شامل لا ترى فيه إسرائيل قضية يهودية أو مشروع حرب دينية مع المسلمين، ولكن في إطارها الحقيقي من أنها المشروع الوظيفي الإسرائيلي وكيلا عن الغرب الإمبريالي والرأسمال العالمي بامبراطورياته المتعاقبة البريطانية ثم الأمريكية، وأن المستهدف به ليس فلسطين وحدها، بل كامل الوطن العربي.

هذا المشروع الوظيفي هدفه تمزيق الهدف الحضاري والاستراتيجي الذي بدأت الأمة العربية تدرك ألا مستقبل لها، ولا أمن لها بدونه، ألا وهو ضرورة أن يقوم بينها رابطة جامعة تسمى وحدة أو اتحادا أو تجمعا أو مجلسا.. .الخ.

وبما أن هذه الوحدة لن تقوم دون اتصال مصر بسوريا وإفريقيا العربية بالشام تم زرع إسرائيل. يقول الأستاذ هيكل في حلقات مع هيكل على الجزيرة:«إن قيمة جمال عبد الناصر في هذا المجال هو أنه هو الذي بلور نظرية للأمن القومي العربي حسم فيه أن إسرائيل هي هذا الخطر يمنع اتصال الأمة في الشام وفي إفريقيا في وادي النيل وفي شمال إفريقيا، وأن هذا الخطر يتوسع ويرغب أن يتوسع ويمتد، لأن طبيعة الأمور أنه يمتد لكي يحصل على فلسطين كلها، ثم يمتد كأداة لمشغليه آسيويا إلى حدود إيران وأذربيجان والقوقاز والهند وإفريقيا حتى منابع النيل». رفع جمال عبد الناصر بهذه النظرية مستوى العلاقة العربية بفلسطين حتى 1952 من شعارات نساعد الجيران الفلسطينيين أو نساعد الأشقاء ونمنع انفجار مشكلة اللاجئين إلى شعارات أن الدفاع عن فلسطين ودعم شعبها ليس منة ولا مساعدة بل هو دفاع كل شعب عربي عن نفسه وعن ثروته وعن أمنه وحدوده، وأن هذا الأمن الوطني لا ينفصل عن الأمن القومي العربي العام، وأن تصفية القضية الفلسطينية هي تصفية تدريجية للوجود العربي يهدد العرب بالخروج من التاريخ والانقراض كما انقرض الهنود الحمر من استيطان مماثل في نصف الكرة الغربي قبل أربعة قرون ونصف.

المسار التاريخي الثاني: هو انحياز جمال عبد الناصر لخيار المقاومة،

بتحديده نظرية الأمن العربي، وبإدراك الطبيعة المتوحشة والعدوانية للمشروع الوظيفي الإسرائيلي كان على جمال عبد الناصر أن يحدد موقفه من التنافس التاريخي الذي عرفته الحركة الوطنية الفلسطينية منذ العهد العثماني وعهد الانتداب البريطاني بين اتجاهين: هما اتجاه يدعم المقاومة المسلحة كخيار، واتجاه آخر يميل إلى الاتصالات السياسية والتسوية والحلول المرحلية. انحاز ناصر بقوة لخيار المقاومة.

وعلى عكس ما يزعم البعض من أن اهتمام عبد الناصر بدعم خيار المقاومة الفلسطينية بدأ كرد فعل للغارة الإسرائيلية على غزة 1955 فإن الوثائق تثبت أن أول كتيبة فدائية فلسطينية منظمة ومدربة بشكل حديث أمر بها عبد الناصر في قطاع غزة كانت في عام1954وأن ضابطه العظيم مصطفى حافظ في غزة آنذاك – الذي اغتالته إسرائيل لاحقا – كان المسؤول عن تدريب وتسليح العديد من المجموعات، والتنسيق لعملياتها على المستوطنات الإسرائيلية.

عندما نشأت حركة فتح وباقي منظمات المقاومة المسلحة كان عبد الناصر بزعامته العربية التي لا ينازعها أحد قادر على نقل قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بأكملها لعرفات ورفاقه من المسلحين على حساب السياسيين التقليديين دون أن تمنعه معارضة وتحفظات بعض الدول العربية.

وضع عبد الناصر كل إمكانات مصر العسكرية تحت إمرة المقاومة ومدتها مصانع السلاح المصرية بما في وسعها، ولكن الأهم كان شهر يوليو 1968 الذي قدم فيه ناصر عرفات للقادة السوفييت، وكانت بداية لعلاقات دولية للمنظمة وضع فيها عبد الناصر كل استثمار وقدر مصر وقتها في العالم وحركة عدم الانحياز ومع كل حركات التحرر الوطني في القارات الثلاث ومع الصين والاتحاد السوفييتي وكوبا وألمانيا الشرقية ودول حلف وارسو آنذاك ما رفع المنظمة في فترة من الفترات حتى عام خروجها من لبنان 1982 لتكون أهم لاعب دولي من غير الحكومات أو أهم حركة تحرر وطني في العالم.

المسار الثالث هو التدخل لإنقاذ المقاومة والمحافظة على سلاحها، فأنقذت مصر في عهد 23 يوليو1952- 1970 المقاومة من التصفية، ومن السعي الأمريكي الإسرائيلي المزمن لنزع سلاحها. حدث ذلك مرتين: الأولى في لبنان باتفاق 1969 وفي الأردن عام 1970 باتفاق وقف مذابح أيلول الأسود، وكانت مفاوضات الأخيرة وعملية إنقاذه لعرفات شخصيا، وإحضاره من مدينة عمان- كانت من الإرهاق أنها أنهكت قلبه المريض، فكانت آخر لحظة من حياته في 28 سبتمبر من أجل فلسطين ومن أجل المقاومة، وهما اللذان لا يجدان الآن من ينقذهما من المجاعة أو مخطط نزع السلاح.

نقلا عن صحيفة «عُمان»

Exit mobile version